تم النشر في الإثنين, 11 يونيو 2018 , 10:02 صباحًا .. في الأقسام : أهم الأخبار , من الأرشيف

مشوار الكاتب والصحفي العراقي داود الفرحان: طلب مني عدي أن (أشرشح) وزير الإعلام فعاقبني صدام بإغلاق الصحيفة ثلاثة أيام

 الاستاذ الكبير    داود الفرحان شاهد حي على مرحلة من أهم مراحل تاريخ العراق المعاصر، كان صحفياً مشاكساً في عهد صدام حسين الذي أدخله السجن مراراً لكنه لم يخف إعجابه بشجاعته وسخريته اللاذعة.. شهد صعود صدام وسقوطه وعرف عن كثب أبرز رجالات عهده.. في مشواره الحافل قصص وحكايات مثيرة نسترجعها معه في الصفحات التالية:

النشأة.. والطفولة

للصبا ذكريات وحنين فأين مكان الميلاد؟

– ولدت في بيت جدي في قضاء الأعظمية في بغداد في عام 1943م. وكان جدي يبدو في عقاله العربي وعباءته كأنه أحد أمراء الخليج، أما جدتي لأبي فكانت مترفة في ملابسها، وسلطانة في جلساتها وأمامها «منقلة» الشاي. ومن الطفولة تعلقت كثيراً بجدي وجدتي، وكانا يدللاني جداً. ولا أنسى أن جدي أهداني ذات يوم وأنا طفل خنجراً عربياً جميلاً لا أزال أحتفظ به. لكن سرعان ما انتقلت عائلتي إلى مدينة خانقين على الحدود العراقية – الإيرانية، حيث كان يعمل والدي ملاحظاً فنياً في شركة النفط البريطانية «بريتش بيتروليوم» الشهيرة بحرفي (بي. بي). وفي هذه المدينة الجبلية الجميلة التي تقع على نهر الوند الذي ينبع من الأراضي الإيرانية ويصب في نهر ديالي، أحد أكبر روافد نهر دجلة، تفتح ذهني على ما حولي ودخلت المدرسة الابتدائية.

وماذا تذكر من تلك المرحلة؟

– كانت منطقة الأعظمية، التي ولدت فيها منطقة راقية، وما زالت، وتقع على شاطئ نهر دجلة ويفصلها عن قضاء الكاظمية الديني نهر دجلة في أوسع عرض له. وكان يربط بين الكاظمية والأعظمية جسر قديم مشيد على قوارب حديدية طافية، ومربوطة ببعضها بحبال وأسلاك متينة، وتهتز جميع أطراف الجسر حين تعبر عليه السيارات الخشبية القديمة من أنواع «شيفروليه ودودج وبيد فورد». وكانت هذه السيارات تنقل البشر والحيوانات معاً، لم يكن راديو السيارة قد دخل الخدمة بعد، فكنا نستمع لمعمعة الخراف طوال الطريق. وأتذكر أن الخراف كانت تتهستر حين تبدأ السيارة بالترنح فوق ذلك الجسر العتيق المتهاوي، بينما يتعالى صوت النساء المبرقعات بالعباءات السوداء وغطاء الوجه «البوشية» السوداء الشفافة: «يا ستار، يا حافظ». ويتمتمن بآيات قرآنية لدفع البلاء. وكثيراً ما كانت حبال ذلك الجسر تتقطع بفعل الرياح والفيضانات، فيتسابق الرجال إلى محاولة إنقاذ من يمكن إنقاذه وإعادة ربط الجسر وسط قرع الطبول والدفوف في مهرجان فولكلوري لا أزال أتذكر بعض أطيافه، بينما سرد علي والدي – رحمه الله – تفاصيل أوسع عن عبور ذلك الجسر كأنني أشاهد فيلماً سينمائياً مثيراً عن جسور الحبال التي كان يعبر عليها هاريسون فورد بطل سلسلة أفلام «إنديانا جونز»!

حدثنا عن علاقتك بوالدك كيف كانت وماذا كان يعمل؟

– كنت متعلقاً بوالدي أكثر من والدتي. وكان تعليمه محدوداً بما يكفي لقراءة الصحف وبعض الكتب، وأفندياً يضع على رأسه «الفيصلية» نسبة إلى الملك فيصل الأول ملك العراق، أي «السدارة» المصنوعة من الصوف. كانت هوايته الميكانيكا لذلك كان مطلوباً في إقامة المصانع البترولية الكبيرة مثل مصفى الوند في خانقين ومصنع الصفيح في شركة «بريتش بيتروليوم» البريطانية ومصفى الدورة في بغداد، ومصنع الزيوت النباتية في بغداد أيضاً. وأتذكر أن والدي كان يرتبط بعلاقة طيبة مع صاحب مصنع الزيوت النباتية الشخصية السياسية الكبيرة محمد حديد والد المهندسة المعمارية العبقرية زها حديد والذي صار بعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958م وزيراً للمالية في حكومة الزعيم الركن عبدالكريم قاسم. كان – رحمه الله – صاحب مزاج يحب سماع الأغاني العراقية القديمة ويقتني غرامافوناً (أبو البوق)، لكنه لا يشرب ولا يدخن. وكان يشارك في رحلات صيد برية ونهرية ثم انقطع عنها بعد أن مات أحد أصدقائه بطلق ناري عن طريق خطأ رفيق آخر لهم في إحدى رحلات الصيد. وقد صدمت صدمة كبيرة حين توفي في حادث إنقلاب سيارة في عام 1978م. لقد أثرت شجوني يا أستاذ عبدالعزيز.

على مقاعد الدراسة

لننتقل لحديث عن مراحل الدراسة كيف بدأت؟

– كانت المدرسة الابتدائية النموذجية في مدينة خانقين تبعد عن بيتنا نحو نصف ساعة بالسيارة، وكنت أنتقل منها وإليها بحافلة إنجليزية من نوع «بيد فورد» وهي شركة مشهورة ومازالت تعمل، لكن معظم إنتاجها موجه لجيوش العالم. كانت المدرسة مختلطة، وهو أمر غير مألوف كثيراً في تلك السنوات من نهاية الأربعينيات، وكان مدرسوها من العرب والأكراد والتركمان والمسيحيين، وفيها مدير حازم ومنضبط يسكن في دار مجاورة للمدرسة. وصادف أن ارتفعت درجة حرارتي ذات صباح ممطر شديد البرودة وأنا في المدرسة، فأرسلني المدير برفقة الفراش إلى بيته، حيث تمت رعايتي وتدفئتي. وكتبت مقالاً عن ذلك الموقف الإنساني بعد خمسين سنة قلت فيه ما معناه إنني مدين لمدير تلك المدرسة الراحل – رحمه الله – بفضل كبير. وفوجئت بأن المدير لا يزال على قيد الحياة، وكلمني فعلاً ووجه لي دعوة لزيارته في منزله في مدينة بعقوبة التي انتقل إليها بعد تقاعده، وتبعد عن بغداد بنحو ساعة في السيارة. إلا أن الظروف والمشاغل أنستني تلبية الدعوة للأسف الشديد.

ذكرت قبل قليل أن المدرسين كانوا خليطاً من الأديان والقوميات، هل كان التلاميذ كذلك؟

– نعم. وأشير هنا إلى أن المدرسة الابتدائية كانت تضم طلاباً مسلمين ومسيحيين وأرمن ويهوداً. فمدينة خانقين مدينة مختلطة يحيط بمنزلنا فيها جيران أكراد وتركمان ومسيحيون وأرمن ويهود وخبراء إنكليز من إدارة شركة النفط البريطانية صاحبة امتياز نفط خانقين ومصفى الوند. كان بيتنا مجاوراً لخط سكك حديد يربط بغداد بخانقين، وكثيراً ما استخدمنا ذلك القطار في الانتقال إلى العاصمة ومنها.

في كلية بغداد

وماذا بعد مرحلة الابتدائية؟

– أمضيت الدراسة الثانوية في «كلية بغداد» وهي متوسطة وثانوية أسسها الآباء اليسوعيون الأمريكيون في الأربعينيات من القرن الماضي وتتقاضى أجوراً عالية من الطلبة، وكانت تضم صفوة الطلاب وأبناء الوزراء وكبار المسؤولين في العهد الملكي. ومن زملائي في تلك المرحلة الدكتور أياد علاوي رئيس الوزراء العراقي الأسبق، والدكتور أحمد الجلبي السياسي المعروف، والدكتور عادل عبدالمهدي نائب رئيس الجمهورية السابق، والمطرب العراقي الشهير إلهام المدفعي، وعبدالحق العاني المحامي المعروف في لندن وكان المحامي الخاص للسيدة رغد صدام حسين. وكانت علاقتي وطيدة في تلك الثانوية مع أحمد الجلبي وعبدالحق العاني. وقد غادر الجلبي العراق مع أهله عقب ثورة 14 تموز 1958 ولم ألتق به إلا بعد الاحتلال الأمريكي. ببضعة أيام حين عرض علي رئاسة تحرير جريدة «المؤتمر» اليومية التي كان على وشك إصدارها في بغداد واعتذرت لأنني قررت الهجرة من العراق.

إنها مجموعة متناقضة من الأسماء.. أليس كذلك؟

– فعلاً. وقد قررت تحويل هذا المشهد الدرامي إلى مسرحية تؤرخ لمسيرة العراق من العهد الملكي إلى الاحتلالين الأمريكي ثم الإيراني. وفيها كل عناصر الإثارة والترابط والتناقض والصعود والهبوط، ولكل منها اتجاه سياسي معين. وستكون شخصية المطرب إلهام المدفعي «ملح» المسرحية بأغانيه الجميلة المستلهمة من التراث الفني العراقي الغني.

في عالم الصحافة

عرفت إنك تحمل شهادة البكلوريوس في الصحافة من جامعة بغداد. كيف دخلت عالم الصحافة؟

– وجدت نفسي وأنا في المرحلة الابتدائية شغوفاً باللغة العربية ومادة الإنشاء. وكنت أقرأ أي كتاب أو مجلة تدخل بيتنا. وبحكم عمله، كان والدي – رحمه الله- يحصل على مجلة بريطانية لم أر أضخم منها تنشر كل ما علاقة له بالصناعات النفطية من صور الآلات والاكتشافات النفطية ووسائل الصيانة وعناوين المصانع. كنت أقلب صفحات هذه المجلة الضخمة وأنا أكتشف عالم الصحافة ولو عن طريق مجلة عن «الميكانيك». ولحسن الحظ كانت إدارة المدرسة الابتدائية توفر لنا في كل سنة، ولمرة واحدة أو مرتين، فرصة شراء مجلة أطفال عراقية أظل أقرأها طوال العام مائة مرة بلا ملل! وكنت أوفر من مصروفي اليومي ما يساعدني في شراء مجلات الأطفال، والكبار أحياناً. إنه عالم مدهش فتحت عينيّ على وسعهما للتعرف إليه واستكشاف مجاهله. وخلال المرحلة الثانوية كنت أكتب مجلة شهرية كاملة بخط اليد وأوزعها على أصدقائي الذين انتابتهم العدوى فبدأوا بكتابة مجلاتهم!

وبعد الدراسة الثانوية كنت مصمماً على دراسة الصحافة، وأضعت سنة من عمري في انتظار افتتاح أول قسم للصحافة في كلية الآداب، وكان يشرف عليه أساتذة مصريون كبار مثل الدكتور عبداللطيف حمزة والدكتور حسنين عبدالقادر وأستاذ أمريكي يدعى بروفسور ديزموند وكان رجلاً مثقفاً فاضلاً ومتواضعاً وإنساناً بمعنى الكلمة. وفي القسم توليت الإشراف التنفيذي على صحيفة «صوت الجامعة» الأسبوعية التي لاقت نجاحاً طيباً داخل وخارج الجامعة.

ما الوظائف التي مررت بها؟

– أتيحت لي فرصة أول وظيفة مؤقتة خلال العطلة الصيفية في أمانة العاصمة في عام 1958م وعمري لا يتجاوز 15 سنة، وكانت مهمتي أن أختم تذاكر دخول دور السينما! وبعد شهرين من عملي حدثت ثورة 14 تموز 1958م التي غيرت النظام الملكي إلى النظام الجمهوري. وفي ذلك التاريخ الفاصل بدأت السنوات المرّة والنكبات التي ابتلى بها العراق جيلاً بعد جيل حتى وصلنا إلى هذه المرحلة المأساوية.

تركت العمل في الأمانة بعد انتهاء العطلة، وشاء الله أن أعود إليها مرة أخرى في عام 1961م في وظيفة حسابية محترمة مع أنني لا أفهم في الحساب أكثر من جدول الضرب! وفي عام 1967م كتبت مقالاً في عمودي اليومي في صحيفة «صوت العرب» العراقية انتقدت فيه أمين العاصمة وأنا موظف في الأمانة نفسها! وكان الرد أمراً وزارياً بنقلي إلى أبعد مدينة في العراق وهي أبو الخصيب على شط العرب جنوبي البلاد. استنفدت جميع مستحقاتي من الإجازات في هذا النفي الإجباري وتركت الوظيفة الحكومية مكتفياً بالعمل المهني في الصحافة مع عملي مراسلاً محلياً لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية التي قضيت فيها أكثر من 15 سنة. ثم عرضوا علي في هذه الفترة وظيفة مناسبة في وزارة الثقافة والإعلام وهي رئيس وحدة البحوث الإعلامية فقبلتها إلى جانب عملي في الوكالة المصرية ومراسلاً لمجلة «اليقظة» الكويتية ثم «الديار» اللبنانية، ثم نقلت رئيساً لهيئة رقابة المطبوعات البريدية فمديراً لرقابة المطبوعات العربية والأجنبية فمديراً لتحرير جريدة «الجمهورية» كبرى الصحف العراقية التي حققنا فيها رقماً قياسياً في توزيع الصحف العراقية وهو ربع مليون نسخة يومياً. ومن «الجمهورية» إلى وكالة الأنباء العراقية نائباً لمدير عام الوكالة ونائباً لرئيس تحريرها ثم مستشاراً إعلامياً للسفارة العراقية في القاهرة. مارست أيضاً الرقابة على الأفلام السينمائية لمدة تزيد على عشرة سنوات. نسيت أن أشير إلى أنني خلال عملي رئيساً لهيئة رقابة المطبوعات البريدية كان جزءاً من عملي من عام 1975م إلى 1978م مراقبة المطبوعات والرسائل التي ترد إلى مرشد الثورة الإيرانية الخميني الذي كان لاجئاً وقتها في مدينة النجف قبل انتقاله إلى باريس ثم عودته إلى طهران بعد الثورة في عام 1979م.

كاتب مشاكس

إنها تجربة طويلة وغنية ومتنوعة. ومما قرأته عنك في «ويكيبيديا» الموسوعة الحرة بأنك داعبت بكتاباتك أحاسيس العراقيين، وتفردت بقلمك الساخر الجريء، وأنك تكاد أن تكون الكاتب الوحيد الذي انفرد بنقد مفاصل الدولة أيام حكم الرئيس السابق صدام حسين. وأنك تعرضت للسجن والإهانات مرات عديدة من قبل النظام العراقي السابق بسبب مقالاتك الساخرة واللاذعة. حدثنا عن قصة هذه الاعتقالات وهذه المقالات وأبرز ما يعلق في ذهنك عن تلك الفترة؟

– منذ البداية كنت كاتباً مشاكساً. هذه هي طبيعة الكتابة الساخرة. فأنا لا أضحك من شخص يمشي في طريقه، لكني أضحك حين يتعثر بحجر أمامه أو يقع في فتحة مجاري. كنت أتصيد عثرات الحكومة، وكما أشرت في إجابة سابقة أن الحكومة اضطرت في عام 1967م إلى نقلي إلى أقصى مدينة في العراق لتتخلص من كتاباتي، وقد تعرضت بسبب إسلوبي في الكتابة إلى كثير من الضغوط والمواقف الحكومية السلبية، ومع ذلك كنت أملك الشارع كله. ووقف الشارع العراقي معي داخل العراق وخارجه حين تم اعتقالي بقرار من الرئيس صدام حسين شخصياً. وسبب الاعتقال أنني كتبت مقالاً نقدياً شديد القسوة في صحيفة «الزوراء» التي تصدرها نقابة الصحفيين وأشرف على تحريرها بصفتي النائب الأول للنقيب، وكان في ذلك الوقت (1998م) عدي صدام حسين. كان المقال بعنوان «ليلة فقدان الحاجة فاطمة» وقصته عن سيدة عراقية كبيرة السن ذهبت للحج وفقد أثرها هناك. وحين عاد وزير الأوقاف ورئيس بعثة الحج عقد مؤتمراً صحفياً أشاد فيه بجهوده في خدمة الحجاج مشيراً إلى فقدان الحاجة فاطمة، وكأنه فقد جهاز فيديو أو حقيبة سفر. وقلت إنه في الدول التي تحترم شعوبها يستقيل الوزير في هذه الحالة أو يُقال. فرد علي الوزير بمقال حاول فيه الإساءة إلى نزاهتي متهماً إياي بمحاباة شركات السياحة التي تضررت من بعض قرارات الوزير. فكتبت مقالاً ثانياً تحدثت فيه عن كلبة تعيش في الحديقة الخلفية لنقابة الصحفيين، وولدت خمسة جِراء كنت أنقل لها من البيت بعض الطعام يومياً، ثم سرق الأطفال اثنين منها لبيعها في سوق الحيوانات أيام الحصار الجائر، ودهست سيارة مسرعة جرواً آخر، وأخذ أحد أعضاء النقابة واحداً إلى منزله ثم أعاده في اليوم التالي لأن زوجته هددته قائلة: «أنا أو الجرو»! فاختارها. وختمت المقال الطويل بجملة قلت فيها: «ان هذا المقال لم يكن مخصصاً للحديث عن كلبة النقابة ولا جرائها الصغيرة، ولكني وجدت أن الحديث عن الكلاب أجدى وأنفع من الرد على ذلك الوزير»! وفي نفس يوم صدور الصحيفة كان مجلس الوزراء منعقداً وبكى فيه الوزير من قسوة المقال فأمر صدام باعتقالي فوراً. فأخذوني وربطوا عيوني وقذفوني في زنزانة انفرادية حمراء الجدران في سجن تابع للمخابرات العامة ويعتبر أسوأ سجون العراق. وبقيت في تلك الزنزانة الانفرادية ثلاثة أشهر كاملة منقطعاً تماماً عن العالم الخارجي ولا أعرف أي أخبار عن أسرتي. والطريف أن مدير السجن قال لي: «أنت ضيفنا»! ثم أغلق عليّ باب الزنزانة بثلاثة أقفال. ولم يجر معي أي تحقيق.

ما المدة التي قضيتها في المعتقل؟ وأين كان المعتقل؟ وكيف تم إطلاق سراحك؟

– أمضيت في المعتقل ثلاثة أشهر في زنزانة انفرادية فيها فتحة واحدة من الخارج أستلم عبرها الطعام ثلاث مرات يومياً. كان المعتقل يحمل اسم «حاكمية تحقيق المخابرات» ويقع وسط بغداد في منطقة شارع 52 في الكرادة، وهو عبارة عن عمارة من ستة أدوار؛ الدوران السادس والخامس مخصصان للزنازين، بينما بقية الأدوار للتحقيقات والإدارة والملفات والحراس. وقيل لي إن هناك قبواً تحت العمارة تجري فيه «حفلات» التعذيب. وفي العمارة مصعد إلا أن المعتقلين يستخدمون السلالم في الصعود والنزول إلى غرف التحقيقات أو الإعدام.

وبهذه المناسبة أكشف أن المخطط الهندسي لهذا المعتقل الرهيب كان هدية من الرئيس الكوبي كاسترو إلى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين توطيداً للعلاقات بين الشعبين الصديقين العراقي والكوبي!

أما حكاية إطلاق سراحي فهي حكاية عجيبة لم يشهدها معتقل حاكمية التحقيق لا من قبلي ولا من بعدي. ففي أول زيارة قام بها مدير المعتقل لي في زنزانتي بعد أسبوع من اعتقالي سألني بكل أدب إذا كانت لدي أية احتياجات، فقلت له: أريد كتابة رسالة للرئيس صدام. فاستغرب الرجل وقال: ليس لدينا معتقلون يكتبون رسائل إلى رئيس الدولة أو غيره. قلت له: أرجو أن تنقل طلبي إلى أصحاب القرار فلدي ما أقوله للرئيس. تأملني المدير جيداً وقال: هل لك طلبات أخرى؟ قلت له: أريد نسخة من القرآن الكريم.

وفي اليوم التالي بعث لي نسخة من القرآن الكريم، لكني لم أر وجه الأخ مدير المعتقل، وهو رجل خلوق ومحترم، إلا بعد شهرين ونيف من ذلك اللقاء، حين قام بجولة تفقدية زارني خلالها وسألني إذا كانت لدي أي طلبات. فقلت له: طلبي الوحيد هو كتابة رسالة إلى الرئيس ولم ترد علي حتى اليوم. فأجاب مرة أخرى: اللوائح لا تسمح للمعتقلين بكتابة أية رسائل. قلت له: «دعوني أكتب الرسالة وإذا لم تعجبكم مزقوها». كرر كلامه عن الممنوعات. قلت له: «طيب. سيتم إطلاق سراحي بعد شهر أو بعد سنة أو بعد عشر سنوات اذا بقيت حياً، وعندها سأطلب مقابلة الرئيس صدام وأقول له إنني حاولت إرسال رسالة إليك ولكن مدير المعتقل رفض. تلقى الرجل كلماتي المتحدية بصمت ثم استدار وخرج بدون أي سلام.

في اليوم التالي فتحوا باب زنزانتي واقتادوني معصوب العينين إلى الدور الأرضي. رفعوا العصاّبة فوجدت نفسي في مكتب أنيق عرفت بعد ذلك أنه مكتب سكرتير مدير المعتقل. قدموا لي الشاي وقالوا: اكتب رسالتك إلى الرئيس!

تطلعت حولي فشاهدت تلفزيون بغداد ينقل كلمة نائب رئيس الجمهورية الراحل طه ياسين رمضان في مؤتمر قمة في إحدى الدول الأفريقية. وكانت أول مرة أرى فيها التلفزيون منذ ثلاثة أشهر تقريباً. وأمسكت القلم وكتبت رسالة من خمسة أسطر قلت في بدايتها مخاطباً صدام: «من حقك أن تزعل مما كتبت، ولكني أدعو الله أن لا تغضب. لقد قلت سيادتك للصحفيين إن من يجتهد في مقالاته ويصيب له حسنتان، ومن يجتهد ويخطئ له حسنة واحدة. والحسنة التي أريدها في حالتي هي إطلاق سراحي».

قال لي المرحوم مدير المخابرات وقتها إنه قرأ الرسالة وفوجئ بصيغتها القوية والموجزة، ثم ذهب إلى وزير الإعلام في ذلك الحين عام (1998م) وقرأها الاثنان مرة أخرى واتفقا على أن الرئيس سيطلق سراحي فور قراءة الرسالة. وفعلاً قرأها صدام وكتب عليها بالحبر الأسود: «يطلق سراحه فوراً ويعود إلى جميع وظائفه»! وأراني مدير المخابرات صورة مستنسخة من الرسالة وتوجيه الرئيس، لكنه لم يسلمني نسخة منها، ولا أنا طلبت ذلك.

الصحفي.. الموظف

لدينا الآن صورة عن داود الفرحان الصحفي ولكننا نريد أن نعرف داود الفرحان الموظف؟

– بعيداً عن المقالات، كنت في إحدى الفترات في السبعينيات مديراً لرقابة المطبوعات. وحدث أن وصلت عن طريق البريد نسخة واحدة من مجلة بريطانية تهتم بصناعة الأحذية وموجهة إلى شركة «باتا» العراقية، فأشرت بارسالها إلى الشركة. لكني فوجئت بعد أيام بضابط من الأمن العام يطرق باب مكتبي ويسألني عن اسم رقيب اللغة الإنجليزية. فقلت لهم إنهم عديدون (وأفتح قوساً هنا لأشير إلى أن الأستاذ صلاح النصراوي مراسل وكالة أسوشيتدبريس في القاهرة والكاتب السياسي كان أحد أفضل رقباء اللغة الإنجليزية في رقابة المطبوعات في فترتي). طلب الضابط استمارة الرقابة واستأذنني في أصطحاب الرقيب المقصود، فاعترضت وطلبت منه استحصال موافقة وزير الإعلام قبل أي تصرف من جانبي، وكان وزير الإعلام وقتها ال؟أستاذ طارق عزيز أفرج الله عنه في محنته ومحبسه وشفاه. المهم تم اعتقال الموظف بعد ثلاثة أيام، فذهبت في اليوم نفسه إلى الأمن العام، وقلت لهم إنني المسؤول عن إطلاق تلك المجلة إلى شركة «باتا» ولا علاقة للرقيب بذلك، وإذا كان هناك من يستوجب اعتقاله فهو أنا. ولم أخرج من الأمن العام بعد ساعات إلا والرقيب في طريقه إلى مسكنه. وهو أمر يدعو إلى العجب: أين الأضرار بالأمن العام إذا كانت نسخة واحدة من مجلة عن الأحذية سمحت بها الرقابة إلى جهة حكومية ذات اختصاص؟ وتبين أن سبب الاعتراض أن المجلة تتضمن صفحة إعلانية عن الأحذية الإسرائيلية.. عفواً الأحذية الصهيونية!

وماذا عن كتابك الشهير «بلد صاعد بلد نازل»؟

– قبل أن يتم فتح تحقيق رسمي معي في التهمة الكيدية التي حدثتك عنها وأنا أعرف نتائج هكذا تحقيقات مقدماً، قدمت استقالتي من جميع تلك المواقع دفعة واحدة وتفرغت لكتابة صفحة إسبوعية في مجلة «ألف باء» العراقية الحكومية تحت عنوان «بلد صاعد.. بلد نازل». وأحدثت المقالات ضجة كبرى لأنني قلت فيها كل شيء بأسلوب ساخر استحضرت خلالها زيارة قمت بها إلى اليابان في عام 1988م وقارنت بين «بلد صاعد وبلد نازل». وحين سألوني في إحدى المحاضرات الثقافية والصحفية من تقصد بالبلد «النازل» قلت: اليابان طبعاً! وضجت القاعة بالضحك. وأصدرت بعد ذلك هذه المقالات وعددها 80 مقالة في كتاب بنفس عنوان المقالات لاقى رواجاً هائلاً ونفدت نسخه سريعاً، وأعيد طبعه عدة مرات من قبل «قراصنة» الاستنساخ. واتصل بي في عام 2004م المراسل الياباني لصحيفة «يوميوري شيمبون» في القاهرة، وهي أوسع الصحف اليابانية انتشاراً، وقال لي إنه اشترى في زيارة قام بها إلى بغداد نسخة مزورة من كتابي، وهو يريد الحصول على نسخة أصلية مع توقيعي. وفعلاً زرته في مكتبه وقدمت له نسخة مقابل النسخة المزورة التي قدمها لي وهي مطبوعة بشكل سيئ للغاية.

وقد نشرت صحيفة «الاتحاد» الإماراتية مقابلة معي احتلت صفحة كاملة للحديث عن الكتاب الذي اعتبرته الصحيفة منشوراً سياسياً جريئاً ضد النظام العراقي السابق.

وليس عجيباً ولا غريباً أن الرقابة العراقية صادرت عدد صحيفة «الاتحاد» الذي تضمن تلك المقابلة الساخنة التي فتحت فيها كثيراً من الملفات.

هل تتذكر موقفاً لعدي يعكس سلوكه الشخصي؟

– قلت لك إن علاقتي به كانت في نطاق المهنة والنقابة، لكني سمعت الكثير عن تجاوزاته ولم أر شيئاً. وأتذكر أن السيدة رغدة، الفنانة السورية المصرية المعروفة، وهي سيدة محترمة ومثقفة لأنني أعرفها جيداً، ودخلت بيتي ودخلت بيتها، تجرأت ذات يوم وقالت لعدي في بغداد حين سألها عن انطباعات الشارع عنه: إنهم يقولون إنك مجرم خطير! فضحك عدي وأمسك سيجاراً كوبياً وأشعله. ونحن نعرف بحكم التجربة أن عدي لا يشعل سيجاره الكوبي إلا إذا كان منفعلاً جداً. لكنه لم يعقب على ما قالته رغدة لأنه يعرف مكانتها وتقدير والده لدورها في تنظيم رحلات تضامن مع أطفال العراق خلال الحصار.

أيام الصعود.. وأيام الهبوط

في اللحظة التي تم فيها إعدام الرئيس العراقي صدام حسين ماذا كان يجول في خاطرك؟؟

– تذكرت في تلك اللحظة المأساوية لقاءين منفردين معه في مكتبه. تذكرت أيام الصعود وأيام الهبوط. تذكرت أغنية للموسيقار محمد عبدالوهاب كنت أرددها في المعتقل: يا ظالم لك يوم مهما طال اليوم. وأرددها اليوم أيضاً وأمامي على شاشة التلفزيون صورة نوري المالكي وهو ينفش ريشه مثل طاووس أجرب.

العراق اليوم

ماذا جرى في اللقائين المنفردين.. إذا لم تكن فيهما خصوصية شخصية؟

– اللقاء الأول تم بناء على طلبه بعد أن أعجبته مقالاتي الانتقادية. وقال لي إنه مندهش أمام جرأتي غير المعتادة في الصحافة العراقية وأسلوبي الصريح والمقنع والساخر في نفس الوقت. وانتقد بشدة المقالات التنظيرية التي كانت تنشرها صحيفة «الثورة» الناطقة بلسان الحزب، وقال إنه يقرأ بعض مقالاتها من فوق إلى أسفل ثم من أسفل إلى فوق من دون أن يفهم حرفاً واحداً مما يريد الكاتب أن يقوله! واستغرق هذا اللقاء ساعة واحدة، وهو أطول وقت يخصصه صدام لصحفي عراقي خلال الحرب العراقية الإيرانية. أما اللقاء الثاني فتم بناء على طلبي، حيث نقلت فيه رغبتي في ترك صحيفة «الجمهورية» التي كنت أعمل فيها مديراً للتحرير والعودة إلى وزارة الإعلام لأنني اصطدمت برئيس التحرير. ووافق بشرط أن أستمر في الكتابة وأهداني سيارة فلولكس برازيلية.

العراق الآن كيف تراه وماذا ينقصه؟ ولماذا قررت الهجرة منه؟

– العراق اليوم كما تسمع وتقرأ وتشاهد، استلمته إيران من أمريكا بالمفتاح. حكم طائفي قمعي فاسد ومتخلف. لا تقل ماذا ينقصه. قل ماذا لا ينقصه!!. قررت الهجرة من البلد في الأسبوع الأول من سنوات الاحتلال. لقد قرأت المشهد المستقبلي مبكراً وعرفت أن علي الرحيل فوراً. لم تغرني مناصب ومراكز ومواقع وثيرة ورفيعة عرضت علي من قبل بعض من جاؤوا مع دبابات المحتلين متوهمين أنني كنت معارضاً للنظام السابق ومن السهل إقناعي بتوليها. لقد رحل النظام السابق منذ أكثر من عشر سنوات ومازلت أقول إنني رغم كل كتاباتي ضده في وجوده وفي صحفه الحكومية وغير الحكومية فإنني لم أكن أحسب نفسي على المعارضة. كانت لدي اعتراضات. أنا معترض ولست معارضاً في النظام السابق لكني اليوم معارض للنظام الحالي ولست معترضاً. أنا أستخدم قلمي في التعبير عن أفكاري، ولا علاقة لي بما يسمى «أجندات» و«فواتير» و«كراسي» و«تحالفات». وكان اسمي واحداً من مائة اسم وردت في قوائم حزب المؤتمر لصاحبه أحمد الجلبي وحزب الدعوة الإرهابي للتصفيات قبل الاحتلال، وتهمتي المنشورة هي أنني أمين عام مساعد في اتحاد الصحفيين العرب!

سألتني مراسلة محطة سي. أن. أن. الشهيرة بعد أيام من دخول المحتلين إلى بغداد عن رؤيتي لما حدث فأجبت: كان يحكمنا رعاة غنم، واليوم يحكمنا رعاة بقر! كناية عن أن صدام كان راعياً للغنم في صباه وبوش كان راعياً للبقر. وتلقفت مجلة «الهلال» المصرية العريقة هذا التعبير ونشرته في باب «أقوال مأثورة».

متى انتقلت إلى مصر ولماذا مصر بالتحديد؟

– انتقلت إلى مصر في اكتوبر (تشرين الأول) 2003م لحضور الاجتماع السنوي لاتحاد الصحفيين العرب ومن ثم الهجرة إلى ماليزيا لتأسيس أول صحيفة عربية هناك. لكن أصدقاء كثيرين في مصر، ومعظمهم رؤساء تحرير صحف ومجلات أعرفهم شخصياً منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، نصحوني بالبقاء في مصر وعدم المغادرة في رحلة ماليزيا. وهو رأي حظي بموافقة أسرتي فبقيت. فضلاً عن أنني من عشاق مصر وشعبها العظيم.

وهل ستستمر في مصر؟

– بعد التطورات السياسية المشحونة أفكر في الرحيل إلى بريطانيا إذا حصلت على لجوء سياسي. وقدمت أوراقي فعلاً، بعد طول تردد، إلى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

باب المقال متى أول مرة طرقته؟ ومتى كان ذلك؟

– نشرت أول مقال في صحيفة «الأخبار» العراقية واسعة الانتشار في عام 1961 عن ثورة الجزائر وبتوقيع «أبو ليلى». وفي الأسبوع التالي كان مقالي يتصدر الصفحة النسائية في الجريدة وبتوقيع «أبو ليلى» أيضاً. وطبعاً لا أنا «أبو ليلى» ولا أعرف ليلى أصلاً، ولكني أردت أن أبدو أكبر من عمري ما يشجع المحررين على نشر مقالاتي، وهذا ما حصل فعلاً.

تميزت في مقالاتك بالكتابة الساخرة بمن تأثرت؟

– دعني أصارحك. لن أقول إنني تأثرت بالعمالقة برنارد شنو ومارك توين وشارلي شابلن والجاحظ وأبي نؤاس وجحا ونجيب الريحاني. اشترى والدي – رحمه الله- نسخة من ديوان الملا عبود الكرخي، وهو أشهر شاعر شعبي ساخر في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. قرأت الديوان وعمري عشر سنوات وظل عالقاً في عقلي الباطن حتى اليوم. لكن هذا لا يمنع أنني كنت معجباً بمارك توين وشابلن وبرنارد شو ونجيب الريحاني. وبالمناسبة اقترح ذات يوم في الثمانينيات من القرن الماضي الكاتب الراحل الكبير محمود السعدني في مقاله اليومي في صحيفة «السياسة» الكويتية تشكيل جمعية للكتاب الساخرين العرب مقرها الكويت، ورشحني لرئاسة هذه الجمعية. وعلقت على مقاله مرحباً بالفكرة ومقترحاً أن أتولى منصب أمين الصندوق وليس رئيس الجمعية. فرد علي السعدني – رحمه الله- في مقال احتل صفحة كاملة في مجلة «المصور» العريقة رافضاً تسليمي منصب أمانة الصندوق لأنه حجزه لنفسه! وماتت الفكرة في مهدها. في عام 2006م منحتني جامعة الحضارة الإسلامية في بيروت شهادتي ماجستير ودكتوراه فخريتين في كتابة العمود الصحفي.

الشعر والرواية

هل طرقت يوماً باب الشعر أو ألقصة أو الرواية؟

– بداياتي كانت قصصية ونشرت عدة قصص في الصفحات الأدبية في منتصف الستينيات أتذكر منها واحدة كانت بعنوان «حبات العرق». لكني تركت الأدب لأهله وتفرغت للصحافة.

منعطفات هامة

حدثنا عن ثلاثة أشياء غيرت مجرى حياتك ما هي؟

– ثلاثة أمور غيرت مجرى حياتي: الأول في عام 1978م حين وافقت جامعة ميشيغان الأمريكية على قبولي طالباً للحصول على الماجستير في وسائل الإعلام الجمارية. وبعد أن أكملت كل الموافقات وقطعت تذاكر السفر لي وللأسرة وبعت سيارتي وصدور أمر وزاري بتعييني مراسلاً لصحيفة (الجمهورية) في الولايات المتحدة اتصل بي ضابط من المخابرات العامة ليبلغني بقرار منعي من السفر! وأمضيت الأشهر الثلاثة اللاحقة في مراجعات عصيبة بدون أية نتيجة. لكني علمت أن المنع كان بسبب إخبارية كيدية من «فاعل خير» ذكر بأنني لن أعود إلى العراق بعد تخرجي! والمصيبة أنني كنت في الولايات المتحدة في العام نفسه وتجولت في خمس ولايات من دون أن أفكر في البقاء هناك وعدم العودة. بل إنني لم أوافق على الهجرة بعد ذلك التاريخ بعشرين عاماً حين زارتني في مكتبي مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» بعد خروجي من المعتقل وعرضت علي «الجرين كارت» والعمل في تلك الصحيفة العالمية إذا قررت الهجرة واللجوء.

هذا هو الأمر الأول. أما الأمر الثاني فهو اعتقالي، إذ أضاف لي شعبية واسعة لدى الرأي العام ومصداقية أكثر واحتراماً مضافاً. يكفي أن حراس السجن كانوا يعتذرون لي وأنا في زنزانتي لأنهم مضطرون لإغلاق باب الزنزانة علي، أو ربط يدي خلف ظهري أو عصب عينيّْ، وأكد لي أحد هؤلاء الحراس، وهو اليوم في مركز متقدم في النظام الحالي: إنك صوت الشعب الوحيد في سنوات الصمت الطويل.

أما الأمر الثالث الذي غير مجرى حياتي، فهو هجرتي من العراق بعد أن احتل الأمريكيون بلدي. كان وضعي مستقراً في العراق، أكتب في صحف عديدة، وأتولى مسؤولية مكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط في بغداد، وموقعي محفوظ في قيادة اتحاد الصحفيين العرب ونقابة الصحفيين العراقيين، وأسرتي متماسكة، وبيتي بسيط، وسمعتي «زي الفل» بين الناس. نعيش حياة عادية ونربي قططاً في المنزل وأسهر مع الأصدقاء وزرت كثيراً من دول العالم. بعد الاحتلال والهجرة تحولت وأسرتي إلى أرقام في جهاز حاسوب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. ضيعوا البلد فضعنا معه.

ما البلدان التي زرتها وأين الأجمل ولماذا؟

– زرت دولاً عديدة في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا. وفي كل مكان زرته كنت أتصرف كسائح وليس كعضو في وفد رسمي. لكن الأجمل في نظري هي ماليزيا، ففيها طبيعة ساحرة وجذابة وجميلة، وأهلها بسطاء يحبون ويحترمون الضيوف. تمنيت أن أقضي بقية عمري في ذلك البلد الآسيوي البديع.

مواقف ومفارقات

ما أغرب موقف مر بك في حياتك؟

– الغرائب كثيرة: لكن أغربها على الإطلاق هو اتهامي بمحاولة اغتيال عدي صدام حسين في عام 1996م! وملخص القصة أن مفرزة مرور توقفت أمام منزلي، وسلم الضابط ورقة إلى زوجتي بضرورة حضوري مع سيارتي من نوع هوندا في الساعة كذا من يوم غد. وقبل الموعد المحدد ذهبت إلى مديرية المرور العامة فصادفت صديقاً برتبة عميد فيها، فرحب بي كثيراً وأدخلني إلى مكتبه، ثم سألني عن نوع المعاملة التي لدي ليقوم بإنجازها، فقلت له ليست لدي أية معاملة، وناولته ورقة التبليغ بالحضور. فقرأها ثم إصفر وجهه ونهض من مقعده وخرج من الغرفة. وحين طال غيابه سألت عنه، فقال لي ضابط آخر بصوت خافت: لقد خرج السيد العميد برفقة المدير العام في واجب طارئ. ثم طلب مني النزول إلى الساحة الخلفية للمديرية لأن معاملتي هناك. وفي الساحة الخلفية وجدت أسطولاً من سيارات «هوندا» وكلها ذات لون واحد؛ رمادي.

ما الذي جرى؟

– اصبر على رزقك يا أستاذ عبدالعزيز.. سيأتيك الكلام. ربما لأنني أكبر «راس» في الموجودين مع سياراتهم تقدم نحوي طبيب يرتدي صدرية العمل البيضاء حاملاً حقيبة صغيرة وحقناً وزجاجات غريبة، ثم قام بدخول الباب الأيمن للسيارة وأخذ عينات من أرضيتها. وطلب مني الانتظار لمدة نصف ساعة. وامتد الانتظار القلق إلى ساعتين جاءني بعدها ضابط وطلب مني مراجعتهم في اليوم التالي لأن السيارة سيتم احتجازها لحين ظهور نتائج التحليل. قلت له: أنا النائب الأول لنقيب الصحفيين وأريد أن أفهم سبب التحليلات واحتجاز السيارة وهذه المعاملة الجافة. فقال إنه لا يعلم شيئاً. لكني لاحظت صديقي العميد الذي حدثتكم عنه في بداية هذه الإجابة وهرب مني واقفاً تحت سقيفة معدنية وسط عدد من الضباط. ذهبت إليه فافرنقع الضباط وبقي وحده مرتبكاً ومُصفراً. قلت له أرجوك ما هي الحكاية؟ رد بصوت هامس: إن السيارة التي كان يركبها مرتكبو محاولة اغتيال عدي من نوع هوندا رمادي، وقد وجد الطبيب آثار دماء على أرضية المقعد الأمامي الأيمن في سيارتك. وهم سيحللون نوعية هذه الدماء والنتيجة غداً.

امتقع وجهي كأنني شربت عصير كاري هندي، ولم أرد، ولم أسلم على الضابط، وعدت إلى بيتي هارباً من حكم بالإعدام ينتظرني. وفي اليوم التالي ذهبت في الموعد المحدد لأجد الطبيب يضحك ويبشرني بأن آثار الدماء على أرضية المقعد الأمامي الأيمن حيوانية وليست آدمية، وأن بإمكاني استلام السيارة والعودة إلى المنزل. وتذكرت أنني اشتريت قبل أيام لحم خروف من القصاب، ووضعت الأكياس، كالعادة، على أرضية المقعد الأمامي. وكاد ذلك الخروف ابن الخروف أن يعلق رقبتي على المشنقة. ومن يومها أضع أكياس اللحم في الصندوق الخلفي للسيارة.

وما الموقف المحزن الذي مررت به في حياتك ولن تنساه؟

– الموت هو أقسى الأحزان. فقدتُ والدي في حادث سيارة قبل 35 سنة. وفقدت أخي الأصغر بعد الاحتلال حين اغتالته منظمة بدر الإرهابية الإيرانية. وفقدت في الغربة والدتي وعمتي التي كانت تعيش معنا. إلا أن الحزن الذي انتابني وزوجتي وابنتيّ فجر يوم مغادرتنا بغداد والعراق متوجهين براً إلى الأردن ومنها إلى القاهرة ليس له دواء. لقد بكينا طوال أكثر من ألف كيلو متر، ومازالت عيناي تدمعان كلما تذكرت الفجر الأخير ونظرات قطط المنزل الوداعية.

شريكة الحيا

بالعودة إلى الحياة الشخصية متى تزوجت وكيف كانت مراسم الزواج آنذاك؟ وما ثمرة هذا الزواج من الأبناء والبنات؟

– تزوجت في عام 1971م من زميلتي في الدراسة الجامعية، وكانت ضمن الدفعة اللاحقة من كلية الإعلام، وكانت رئيسة قسم سيناريو الرسوم في مجلة «مجلتي» للأطفال التي كانت تصدرها وزارة الثقافة العراقية. وكانت مراسم الزواج عادية، وسافرنا بالقطار إلى مدينة البصرة لقضاء شهر العسل. ولدي ابنتان، الأكبر «صفا» وهي رسامة تشكيلية وتعمل معي على الكومبيوتر وساعدي الأيمن، والثانية الدكتورة «سما» وهي أستاذة مساعدة في جامعة مصر الدولية وتُدّرس الترجمة الفورية من الإنجليزية إلى العربية وبالعكس. ونحن أصدقاء قبل أن نكون أباً وبناته، وأنا من النوع «البيتوتي» أي أحب البيت وأجد راحتي فيه.

في نهاية هذا الحوار ماذا تود أن تقول؟

– أقول ما قاله المطرب العراقي الراحل سعدون جابر: اللي مضيع وطن.. وين الوطن يلقاه؟.

نشر هذا اللقاء في مجلة اليمامه بتاريخ 2013/07/08

 

المشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء مستعارة لاتمثل الرأي الرسمي لصحيفتنا ( المواطن اليوم ) بل تمثل وجهة نظر كاتبها

اترك تعليق على الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.

اقتصاد

سمو محافظ الأحساء يستقبل رئيس الهيئة السعودية للمقاولين

متابعة المواطن اليوم استقبل صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن طلال بن بدر محافظ الأحساء بمكتب سموّه بمقر المحافظة اليوم […]

  • مارس 2024
    س د ن ث أرب خ ج
     1
    2345678
    9101112131415
    16171819202122
    23242526272829
    3031  
  • Flag Counter
  • Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com